القاهرة مثل اليَم. لا يمكن أن تدخلها دون أن تلتقطك أمواج الصخب الهائجة. هل تخيل أحد عند وضع أساس هذه المدينة في القرن العاشر أنها ستتعملق وتخرج عن السيطرة إلى هذا الحد؟ وهل تخيل أحد أنها ستأوي ما يزيد عن عشرين مليون شخص بين أضلاعها؟ القاهرة ليست أكبر مدن العالم بالطبع، ولا تماثل بعض مدن الشرق الأقصى تعددًا ومساحةً، لكن هذا لا ينفي أنها قنبلة موقوتة من المكعبات الخرسانية والطرقات الأسفلتية التي يطغى عليها اللون الرمادي القاتم متفوقًا على كل المحاولات الباهتة لطلاء هذه المدينة المكتوب لألوانها الفناء أمام الغبار المتوغل بأغوار المجتمع حتى رئاته. ولا يمر يوم دون أن يستيقظ التراب ولو قليلًا ليذكّر هذه المدينة أن لولا النيل لما كُتب لها البقاء، ففي الصحراء الزوال هو القاعدة.
بين الغبار والعوادم والمكعبات الخرسانية ولون الموت الرمادي ليس من العجيب حقًا أن نشهد موجة من روايات الديستوبيا ورؤى الانحلال العمراني والمجتمعي خارجة من القاهرة التي تقهر وتجرش كل ما يأتي في طريقها من روح ونبات وجماد لتنال اسمها بجدارة واستحقاق وتثبت قول ابن هذه المدينة، الشاعر فؤاد حداد، الذي أتى قوله في سياقٍ آخر لكنه مناسب هنا:
سبحانه الذي أسمانا كان قاري الكتب بأمانه
في السنوات الأخيرة فقط كتب الروائي محمد ربيع «عطارد» ذات التصور المستقبلي الوحشي واللا إنساني للقاهرة، وكتبت بسمة عبد العزيز رواية «الطابور» التي تدور أحداثها في مدينة خيالية يقف سكانها في طابور لقضاء مصلحة ضرورية فيلتهم الطابور حيواتهم، وكتب أحمد ناجي «استخدام الحياة» التي تبدو فيها القاهرة إحدى الشخصيات الرئيسية للرواية. ولم تظهر هذه الأعمال الأدبية معًا بسبب صدفة القدر، بل أتت لتفصح عن جيل كامل شاهد بعينه تحول المدينة الوحشي، وإن صُدم هذا الجيل بما آل إليه حال المدينة فهذا الواقع لم يأت دون إنذار لأجيال أخرى سمعت عن مشاريع الإستيعاب العمراني في الحقبة الناصرية والتي أدت إلى ظهور مدينة نصر في شرق القاهرة والتي ابتلعتها المدينة في غضون سنوات ليجد الهامش نفسه في المركز. ربما عاشت الأجيال السابقة على أمل نجاح محاولات التخطيط العمراني لكن هذا الجيل عاصر فشل هذه المشروعات التي أوضحت أن تعملق القاهرة قادم لا محالة. ولهذا فعندما أعلن في السنوات السابقة عن نوايا إنشاء عاصمة إدارية جديدة تبعد عن القاهرة بعشرات الكيلومترات لم يصدق الكثيرون أن هذا سيحل شيئًا.
تتضخم القاهرة يوميًا وبسرعة عجيبة لتلتهم ذرة بعد أخرى من إنسانية سكانها الذين اعتادوا أن يجلسوا في سيارتهم على مدار ساعات وسط زحام السيارات المتكدسة على كوبري ما ليظلوا عالقين بالطابق الثاني للمدينة بلا حول ولا قوة. فيُقسمون أن يتفادوا كل ما قد يعرضهم إلى هذا الموقف من ارتباطات إجتماعية ومهنية وعاطفية مجددًا حتى يتحولون إلى كائنات تتسلطن المدينة عليهم وتحركهم كما يروق لها. وهذا رغم أن المدينة أنشئت لتحرر الناس من سلطان الطبيعة وتجلب عليهم الرخاء، فما لبثت القاهرة حتى خلقت طبيعة ثانية لا تقل قسوة عن ما سبق.
لا يخفى هذا الواقع عن كل مَن خطى خطوة واحدة في القاهرة. ورغم ذلك، فثمّة سوق عقارات ضخم لا يستحيي من تشييد البنايات ومط قوام المدينة المتهدل إلى أبعد حد. فكل من يمتلك قرشًا زائدًا يهرول لاستثماره في مساحة ما آملًا أن يحصد العائد بعيد المنال، حتى أصبحت المدينة تمتد شرقًا نحو السويس وشمالًا نحو الدلتا وجنوبًا نحو الفيوم وغربًا صوب مزارع الجيزة. لتنسف أراضٍ صحراويةٍ وتُذبل مساحة زراعية مفسحة مجالًا للمزيد من القبح والأسمنت الذي قد يأتي على هيئة بناية من سبع طوابق أو ڤيلا صغيرة من طابقين، ليشتريها أحد وتُترك للأشباح والغبار عدة سنوات حتى تتحول المنطقة إلى حي سكني راقٍ يقدر فيه العقار بثمن لا بأس عليه، فيباع العقار ويراهن المال على منطقة جديدة ستهرول المدينة صوبها بعد عدة سنوات. قد تنجح هذه المقامرة أكثر من مرة لكنها أحيانًا تفشل فتظهر شوارع ببنايات نصف مكتملة أو أبراج شاهقة مكتملة لن تتحول ثقوب واجهتها إلى نوافذ أبدًا ولن تنال أرواحها الحياة، فتتشابه هذه الشوارع حسب حالتها بمدن مزقتها الحروب أو بمحاولات بائسة لإعادة تشييد حضارة أثرية سكنت فياف مجردة قبل آلاف الأعوام، في الحالتين تتهافت للأذهان خواطر عدة أمام هذا المنظر ربما أبرزها هو الخلل الواضح بين العائلات المكدسة في غرف ضيقة والبيوت الخاوية إلا من التراب المتراكم ليزكم الأنوف.
***
كما لا يمكن للقاهرة أن تكون قاهرة دون ترابها، فالرأسمالية لا تحيا دون رأس المال الذي يسري في شرايين هذا الهيكل العالمي المعقد. مثل الجسد تمامًا فإن انقطع رأس المال فجأة أو تعطل مساره تظهر الأزمات فورًا. يُعرِف المفكر البريطاني ديڤيد هارڤي رأس المال في كتابه «لغز رأس المال وأزمات الرأسمالية» (الصادر عام٢٠١٠) على أنه عملية تتضمن إرسال المال للبحث عن مال أكثر (ص. ٤٠). وهو تعريف يبرع في كشف شخصية رأس المال المتجددة وفلسفته في مجتمعاتنا اليوم، تحديدًا لأن رأس المال تحت هذا الوصف يخوض دورة فكلما توسعت الدورة وسُرعت كلما زاد الربح وأتيحت الفرصة لدورة جديدة. هذا المنطق هو المنطق نفسه لسائق الميكروباص في شوارع القاهرة الذي يحاول أن ينجز أكبر عدد جولات في أقل وقت ممكن، مع الحرص على اختيار رحلة ذات حجم مناسب تدير عليه الربح المطلوب.
ويضيف هارڤي إن لدورات رأس المال بُعداً مكانياً هاماً يشكل علاقة ملتبسة بين رأس المال والجغرافية والعمران. فمن جانب يتجذر رأس المال في الجغرافيا والمساحة بأشكال مختلفة مثل البنايات والمصانع والمتاجر والمكاتب، لكن على الجانب الآخر ثمّة محاولات حثيثة ومستمرة لرأس المال بالتحرر من قيود الجغرافيا في زمن العولمة الذي يجعل من العالم قرية صغيرة. بين هذا وذاك يتحول رأس المال لعملية البحث عن الجغرافيا التي تدر أعلى ربح، فينفجر النمو في مساحات ويهجم الركود القاتل على مساحات أخرى، حتى تتغيير نسب الربح ويتحرك رأس المال مجددًا، لتتنج هذه الفوضى النيوليبرالية تطوراً ونمواً جغرافياً متفاوتاً وغير متزن عالميًا على مرأى الجميع.
ويستدرك هارڤي إن تحرك رأس المال من جغرافيا إلى أخرى بحثًا عن الربح يتضمن الدخول إلى مساحات جديدة لم تكن جزءًا من هيكل الرأسمالية المتوحش، فتدشَّن مشاريع التوسع العمراني والصناعي لتدور دورة رأس المال مجددًا.
***
لا يمكن فهم شبكة القاهرة الفوضوية والمكدسة التي يفوح منها خليط من التراب وعوادم السيارات دون وضعها في السياق الذي يحدده رأس المال للجغرافيا والجغرافيا لرأس المال. من هذا المنظور يتحول العقار إلى مكعب أسمنتي له قيمة مالية وليس مكاناً يسكنه من يحتاج إلى مأوى. وتتحول المساحات الصحراوية والزراعية إلى فرص جديدة تحتاجها الرأسمالية كي تعيش، وتحتاجها القاهرة كي يفضلها رأس المال على مساحات أخرى وتستمر العجلة في الدوران رغم الأزمات؛ وتتحول المناطق الشعبية والعشوائيات إلى أراض غير مستغلة رغم مَن يسكنها.
بهذا الشكل تمتد أرجل هيكل رأس المال لتحول كل ما يأتي في طريقها من أرض وأشخاص إلى دوراتها، فيختفي بائع الدندرمة عن قاهرة نجيب محفوظ ويتوقف بائع الفول عن المرور أمام بيتنا وينقطع بائع الحليب عن دق بابنا في الصباح، وتظهر المولات وسلاسل المطاعم والعلامات التجارية الموضوعة على زجاجات الماء من أجل دورات رأس المال العنيفة والمستثمر الذي يجب أن نجذبه ونغويه لتعيش القاهرة المتهالكة وتتعمر وتتوسع، حتى تبتلع المدينة سكانها كما يبتلع اليم صياديه وتتحقق إحدى روايات الديستوبيا.